قصه قصيرة
بعنوان "موت"
ينظر إلى
عقارب الساعة ليجدها تشير إلى التاسعة والنصف، ما يقرب من ثمان ساعات كاملة تفصله
عن وطنه الأم ،
البرد قارص و
الليلة غير مقمرة ينظر إلى السماء داعياً الله أن يهون عليه سفره هذا ، فهو يستقل إحدى
البوارج عائداً إلى وطنه بعد تسع سنوات كاملة هي عمر غربته، يلمح طفلا صغيرا تحاول
أمه إحكام ملابسه عليه جيداً خوفاً من برودة الطقس يبتسم له و يتذكر طفولته
البائسة ، يشعر بقشعريرة تنتابه فيتدثر بمعطفه جيداً، برودة الطقس تشعل سيل أفكاره
وتذكره بلحظه خروجه من الوطن منذ تسعه أعوام وهو شاب في مقتبل العمر ، خرج بعد أن
ضاقت به الأحوال و أصبح الهجر لا مفر منه ، حاملاً معه إخفاقاته الممزوجة بإحساس
العجز والقهر وبصيص من الأمل والحلم ، تاركاً خلفه أمه وخمسة من الأخوات في مراحل
عمرية متنوعة ، هو أكبرهم و عائل الأسرة الوحيد بعد فقدان أبيه في حادث قطار وهو
لا يزال ابن الخامسة عشر ربيعا ، فوالده كان سائق قطار لقي حتفه في حادث تصادم
مروع بين قطارين ، نتيجة متوقعة لإهمال منظومة كاملة دفعت ثمنها العديد من الأسر
التي فقدت ذويها بلا حساب ولا تعويض ، فما أرخص دماء الإنسان في بلاده ، كانت صدمة
وفاة والده هذه محطة فاصله في حياته ، نقطة اللاعودة ، فحياته بعدها لم تعد لذي
قبل ، اضطر لترك دراسته وخرج ليعول أسرته ،ليصطدم بأهوال الواقع، لم يجد إلا
الفتات ، مالا يكفي لسد رمق طفل صغير وليس أسرة بأكملها ، أمتهن جميع المهن
الحرفية و أكتسب بعض المهارات كافح و واصل صباحه بمسائه وتحمل السباب و الإهانات،
فلا مفر ولا سبيل للاختيار حتى جاءت له فرصه العمل بالخارج كعامل بناء فلم يتردد ،
بكت أمه بحرقه ، كيف ستتركني يا ولدي وفلذة كبدي ، أنت عائلي وسندي وظهري بعد وفاه
شريك العمر ، لا تحزني يا أمي فأنا ما افعل ذلك إلا لأجلك أنت وأخواتي ، فالأحوال
تضيق والرزق في نقصان و الاحتياج في ازدياد فتجلدي ولا تحرميني من دعواتك، تسع
سنوات كاملة لم يستطع رؤية أهله فيهن إلا بضعة أشهر معدودة حتى يستطيع توفير
مطالبات أسرته المعيشية ، تسع سنوات تذوق فيهن مرارة الغربة و علقم الوحدة و فراق الأحبة
، كانت أشدها قسوة تلك اللحظة التي فقد فيها أمه ، فقد توفاها الله ولم يمهله
القدر أن يطبع قبله الوداع على يدها ، رحمك الله يا أمي ، كم أتوحشك ، اليوم أعود
للوطن لأحقق حلماً لطالما تمنيته، أزف لعروسي ، فكفاني غربة يا أمي ، ارغب في
السكن والألفة ، أن أجد من تشاركني الحمل و أعباء الحياة ، من تواسي آلامي وتمسح
عبراتي ، من تدفئ بروده قلب عانى من الجفاف سنوات عجاف ، فتذكر عروسه كم هي هادئة
الملامح ، هي قريبه لهم من بلدتهم في احدي قرى الريف ، الجميع يشهد لها بحسن الخلق
وصفاء السريرة ، و بينما هو مستغرق في خيالاته إذ به يشعر بحركة غريبة على سطح
الباخرة تنتشله من أفكاره ليجد العديد من الرجال يهرولون في عشوائية ويسمع صراخ
نساء ، يا الهي ماذا يحدث يقف مسرعا لعله يجد تفسيرا لما يحدث لا أحد يسمع نداءه
ولا يجيب تساؤلاته ، يقذفه أحدهم بمعطف الغرق صارخاً في وجهه أن يرتديه بسرعة فالبارجة
تغرق ، تصيبه الصاعقة فيقف في مكانه بلا حراك كأنه تمثال من الشمع ، لم يخرجه من
تلك الحالة إلا شعوره بميل شديد في جسد البارجة وأصوات تحطم تشبه الانفجارات ،
أغلق عينه مسرعاً وانحنى أرضاً ممسكا بمعطف الغرق بكلتا يديه كأنه هو من يريد إنقاذه
من الغرق وليس العكس ، ليجد نفسه فجأة داخل البحر تتقاذفه الأمواج ،برد قاس لا
يرحم يخترقه مثل السيف القاسم لا يفرق بين صغير ولا كبير، يجعله يعجز عن تحريك
أطرافه ،ظلام دامس يسقط الهلع في القلب مرات تلو مرات، نداءات مستمرة وصرخات
متتالية ،أجساد ضعيفة تنهكها الأمواج المتلاطمة ،أمال تتعلق وتزداد حدتها حتى تيأس
من شده الصدمة ،أصوات تناجي رب السماء هل من أمل للنجاة ،أصوات صراخ وليد وعويل أم
قلبها ينفطر ،صراخ رجال من هول الصدمة تحول لعويل نساء ،فما عدت تفرق بين الرجل والمرأة
والطفل ،الجميع في انتظار معجزه إلهيه تنتشل أجسادهم من الهلاك المحقق ،عيون
تملأها الدموع تنظر في السماء في انتظار الليل كي ينجلي ويشرق نهار يوم جديد ليبث
الأمل في تلك النفوس البائسة ، يرفع ناظريه الي السماء مخاطبا ربه ربي ان كنت قد
عصيتك يوماً فاغفر لي فأنا في أشد الاحتياج لرحمتك ، يغلق ناظريه ويترك جسده
للأمواج تتلاعب به كما تشاء
مستوحاة من
غرق العبارة السلام فبراير-٢٠٠٦
رحم الله أرواحهم
الطاهرةYasmine Youssef
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق