تبرع بعضو
وفي الخامسة صباحا: هناك بعيدا، يسير شاب في العشرينات من عمره ويبدو مجهدا جدا، مخفض رأسه لأسفل وجفونه تكاد تنطبق على بعضها من ثقل رأسه وقلة نومه، لا يبدو مهندما أبدا، يرتدي ملابس العمال تخفي أعباء وظيفته وحياته وسامتَه القلية، وصل إلى مدخل بيته وتسند على الحائط وبدأ يحاول وصوله الشقة، وبعد خمس دقائق وصل للطابق الثالث! يبدو أنه وصل لحد من الإجهاد أنه ما لبث أن دخل الشقة ألقى بنفسه على الأرض وذهب إلى حيث لا يجد وعيه.
"أي حاجة قديمة للبييييع"
استيقظ الشاب على هذا الصوت المزعج، نظر بعينيه المغلقتين تقريبا إلى ساعة الحائط، الثانية بعد الظهر، وحينما هم بالقيام: ...
- "جورنال؟ أنا عمري ماشتريت جرايد! جه منين ده؟ "
كانت منه وهو يمسك بالجريدة بتعجب؛ فهو بالكاد يستطيع العيش ببعض الأموال التي يجنيها من عمله، فمن أين له الجريدة؟! نهض الشاب وهو يتأمل الجريدة ويمد يده في جيبه ليُخرج يوميته يومه السابق، ومن غير مقدمات اتسعت عيناه في دهشة وهو يقرأ:
"البنك البشري يعلن احتياجه أعضاء بشرية سليمة، على المتبرعين الاتصال ب: (.....) للمحمول، أو زيارة (.....)، والمقابل مُجزٍ للمتبرعين، وخاصة ذوو الصحة السليمة، تحت عنوان حملة اتبرع بعضو"
- "اتبرع؟! طب لو اديتهم عضو صحتي هتقل ومش هعرف اشتغل، بس فلوس الاعضاء دي بتبقى كتير ممكن افتح بيهم مشروع حلو، وتسيب حتة منك لحد عشان كام ورق؟، يعني الحتة اللي مني دي كانت عملتلي ايه؟ عملتلك انك بتطيع ربك وبتشتغل بعرقك مش من بيع أمانة ربك عندك، بس انا محتاج الفلوس، ولو، خلاص خدت قرار..... هتبرع."
مبنى عظيم مبني أغلبه من الجرانيت، وفي المنتصف الأعلى منه خارجيا "البنك البشري" نظر الشاب إلى العنوان وضحك بسخرية، ومضى متوجها عبر بوابته، توجه مقدما خطوة ومؤخرا أخرى وهو ينظر إلى المكان، المكان كأنه بنك حقيقي بالفعل؛ يشبه البنوك بأدق التفاصيل، توجه إلى أحد الأماكن لاستقبال المتبرعين.
- "لو سمحت كنت عاوز اسأل عن التبرعات بالأعضاء"
قالها الشاب للآخر الواقف خلف الحاجز الزجاجي، الذي أمسك ورقة مطبوعة وأعطاه إياها وهو يقول:
- "اتفضل يافندم دي ورقة الأسعار"
أخذ الشاب الورقة وهو يقرأ:
"كلية: ٣٠,٠٠٠ جـ
قرنية: ١٥,٠٠٠ جـ
كبد: ٢٠,٠٠٠ جـ
(١) طرف: ٧,٠٠٠ جـ
......إلخ....."
نظر إلى الورقة بسخرية وقال للرجل خلف الحاجز:
- "عاوز اتبرع بكلية"
مشهدنا الآن:
يسترخي الشاب على سرير في غرفة ويلبس ملابس العمليات وهو ينظر حوله بخوف، أمسك الطبيب بالمشرط ويهم ليقطع جزء ليخرج الكلة، تتجمع الدموع في عيني الشاب ويغلقهما في تعب وندم، ويقول في نفسه:
"يا رب، انت أعلم واحد بحالي، مقدرتش اشيل أمانتك يا رب، كان لازم اضحي بجزء منه عشان الباقي يا رب، يا رب انا عارف انك غفور، فاغفرلي يا رب، يا رب سامـ...."
وغاب عن الوعي، والدموع تسقط من عينيه بلا توان، حتى بعدما غاب وعيه، لكن قلبه لايزال حيا، يبكي قلبه لمفارقة صديقه الساكن معه لأكثر من عشرين عاما، يبكيه صديقه، والله أعلم بحال صاحبهما وهو في نومته الآن.
وبعد ساعة: وقف نزول الدموع من عيني الشاب، ليس لأنه غاب وعيه أو انتهى من تأثره، بل لأن قلبه أبى أن يظل ينبض ولا يُحيي جاره.
تييييت تييييت تييييت
- "أوووف؛ العملية فشلت"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق