السبت، 27 أغسطس 2016

مهلة أخري للحياة - محمد شاهين - تحدي الإلهام والإبداع



#مهلة_أخرى_للحياة


كان قد بلغ الصقيع ذروته كما هو الحال دائما في هذا الوقت من كل العام  نهاية ديسمبر



فى القطار الموجه للإسكندرية وبجوار احد النوافذ المغلقة يجلس رجل فى سن الخمسين. نحيل الجسد غطى الشيب بعض رأسه تجد فيه الوقار من النظرة الأولى. امن نفسه من البرد القارص بمعطفه الصوف وكوفيته الملفوفة حول عنقه


اجتمعت عقارب الساعة الثلاث عند السابعة معلنة انه حان الموعد لتحرك القطار. حينها بدأت فى العمل تلك الصفارات التي يشعر دائما انه مبالغ في شدتها.. هي تزيده غضبا وتمنحه دفعه لا بأس بها من الاستنفار


لما يحدث لي هذا؟!! لم تكن هذه هي الحياة التي حلمت بها . لقد تمنيت حقا أن تكون لي أسرة وأبناء وأحفاد ولكن ليس بتلك الطريقة. ليس فى هذا المنزل الضيق المعدوم. لم احلم قط بهذه المهنة ولم احلم بتلك الحياة. اعتقد اننى أعاقب على فعلة ما ولكن ما الجريمة التي ارتكبتها لأعاقب بمثل هذا العقاب الصارم..اذهب الى العمل مع شروق قرص الشمس وأعود مع غروبه واعتقد انه لا استحق حين ذلك سوى الراحة. ولكن كيف ذلك!! بل يجب أن أعيش كل يوم حفل زفاف بدل من الراحة. انه ضجيج الأحفاد يالها من ورطة..اركض كالعادة باحثا عن مفر عن ملجأ عن مكان يمنحني الراحة والسكينة وبمجرد الحصول عليه وإغلاق بابه يبدأ الجميع في طرق الباب لا بل خبط رزع وكأنها لجنة لمكافحة المخدرات في طريقها للبحث عن اعتي المجرمين
- بابا هات فلوس
- يا آخى يتحرق بابا على الفلوس


ما هذه الحياة السخيفة الرتيبة القاسية أنا لا أريدها،أنا اشعر بالملل،أنا أتمنى الانتحار واعتقد انه يدنوا كلما بقيت حياتي هكذا


تحدث بهذا لنفسه وهو جالس في القطار حتى قاطعة هذا الصوت الجهور المستفز
- "شاي حد عاوز شاي"
يرمقه في غضب بالغ ثم يعود إلى هاجسه هذا الهاجس _الانتحار_ الذي يكاد يقتله يدمر عقله ويفتك به يكاد يفجره ويحوله إلى أشلاء صغيرة


***


على احد الشواطئ الخاصة بالإسكندرية يجلس احد كبار السن في صمت شديد متأملا الأجواء. بجواره شاب في مقتبل العمر يلتفت حوله بكل مكان في ملل شديد. يلعب في الرمال. يتحرك على الشاطئ وتحت قدمه المياه. يستلقى على ظهره وينظر إلى السماء متخيلا إشكالا في سحبها ثم يقول سائلا نفسه..ما هذا الملل؟..متى سينتهي هذا الرجل من صمته؟..هل سيبقى هكذا كثيرا دون ملل؟!!


تأتى بضع قطرات المياه لتكون خير حجة له ليطلب المغادرة بقوله: بقولك إيه يا أستاذ هاشم أنا في رأيي نمشى بقى لان شكلها هتمطر
- شكلها؟ أمال المية اللي بتنزل عليا دى إيه؟!!..على العموم يلا أنا كده كده مستني واحد صاحبي بس ابقي قول لأبوك يبعت معايا محمد أخوك يونسنى عشان أنت بتجيبلى صداع


***


يجلس _هاشم_ في منزله الواسع الخالي من البشر مستمعا الى بعض الموسيقى و الأغاني القديمة. دائما ما يمارس هذه العادة فهو يشعر بسعادة غامرة حين يفعل ذلك و الأضائة هادئة. عندها يشعر حقا بالحياة لكنه قرر ان يخترق عاداته لتلك الليلة فقط فقرر أن يذهب لغرفته ويبحث عن صور شبابه وعن ذكرياته


كان مترددا بعض الشئ..هل يتطلع على هذه الصور أم لا..جلس يفكر دقائق كثيرة حتى فتح مجلده وبدأ فى الاطلاع على الصور والعودة للماضي وذكراه


بدأ يغوص في صوره عائدا بها إلى ذكريات اغلبها مؤلمة بالنسبة له ان لم تكن كلها. ظل يتذكر تاريخ كل صورة وتاريخ صاحبها كأنه يحيى الوقت من جديد


هذه صورة له وحبيبته فترة الجامعة وهم في احد الحدائق. كان يعشقها يتمنى لو أن يجمع ذرات التراب التي تسير عليه ويحتفظ بها كان يراها أجمل من بالوجود. كانت جارته في المنزل الذي يسكن فيه مع صديقه _عزت_ كانوا يذهبون غالى السينما والمسرح يسيرون على كورنيش النيل وكان هذا كله طبعا في مقابل وقت مذاكرته وهذا المال المدفوع هو المال الخاص بكتبه. ظل هكذا حتى رسب وتزوجت هي. كان صعبا ومؤلما بالنسبة له أن يسمع الزغاريد لخطبتها وان يرى هذا الرجل وهو يصعد إليها ثم يأخذها ويذهب تقريبا إلى نفس السينما ويجلسون فى نفس المكان وربما يحاول أن يختلس منها قبلة بنفس الطريقة التي كان يحاول هو بها. لم يكن أمامه سوى أن يغير سكنه ويبحث عن حجة أمام أسرته لرسوبه هذا العام
تدمع عينيه فى الغرفة حين يتذكر هذه الصفعة من والده على وجهه فور معرفته نبأ رسوبه.


صورة زفافه. بجواره زوجته المسكينة التى لم يحبها للحظة ولم تحيا معه فى سعادة ولو للحظات حتى سعادة الابناء لم تحظى بها فقد كشفت التحاليل انه عقيم _اى لا يلد_. كانت الحياة معها بلا كلام وبلا مرح وبلا ضحك وكان هذا طبيعى بالنسبة له فعلى الرغم من جمالها لم يحبها وانما اجبر على زواجها وبالنسبة لها كانت ترى انها غير مذنبه فكما اجبر هو اجبرت هى ايضا وتعتقد انها بالنسبة لأسرتها انثى ضعيفة بلا حيلة اما هو فكان باستطاعته الرفض وكان سيخلصها من هذا العذاب. على الاقل كانت ستتزوج من هذا الشاب الذى احبته. زادت الحياة صعوبة بعدما علموا خبر عقمه وظلت معه لفتره لم تتجاوز الشهور ثم طلبت الطلاق. لم يكن يجد بداخله عتاب لها فهى زوجه على درجة عالية من الصبر تحملت خمسة سنوات فى تلك الحياة القاسية وتلك المعاملة الباردة فى كل شئ


صورته مع مدير مكتبه. فبعد وفاة والده وجد نفسه يمتلك ثروة من ميراث والده وشخص مثله وبطبيعة عمله خبير فى اسهم البورصه ومعاملات البنوك فبدأ فى التجارة بمجموعة اسهم ربح منها اضعاف امواله ثم افتتح شركة للاستيراد والتصدير وسرعان ما اصبحت من اشهر الشركات


صورة في احد المتاحف التاريخية وهو يحمل طفلة في مقتبل العمر تظهر فيها سعادته الغارمة مع سحر _طفلة تبناها_ . بعد وفاة امة وجد نفسه وحيدا لا يجد شيئا يشغل باله. كل ما هو جميل وممتع يصير مملا حين تزينه نيران الوحدة. أنها حقا نيران كاوية نيران جعلته يتبنى سحر من احد الملاجئ وهى ابنة العامان. أحبها بشدة وذهب بها إلى أماكن مختلفة من العالم وكانت أول من يمارس معه هوايته هذه كما عاشت معه في سعادة غارمة ورفاهية ومتعة غير محدودة ومرت الأيام حتى أصبحت شابه في الجامعة ليستيقظ فيجد بجواره ورقة تقول فيها أنها تركت المنزل ولن تعود إليه وأخذت معها أكثر من ٥٠٠ ألف من أمواله وهذا مبلغ لا يحرك فيه شعره فهو يملك أكثر من هذا بمراحل متعددة. رحلت وتركته وحيدا يصرخ من الوحدة وعذابها


يظل يقلب في صوره مع أصدقائه  وذكرياته في الجامعة وذكرياته في الخدمة العسكرية حتى غلبه النعاس. نهض إلى فراشه لا يكاد يجزم أن صديقه خدعه ولا توجد زيارة أو ما شابه


دقائق ويدق باب منزله ليفاجأ بصديقه وملابسة منقوعة في المياه فيبادر بسؤاله: أزيك يا عزت هي مطرت عليك؟
- ايوه يا خويا أدى اللي خدناه من زياراتك
- ده أنت شربت المطرة كلها بس اتأخرت كدة ليه؟!!
- ملقتش ولا مواصلة تجيبنى غير فين بعد ما اتغرقت ميه
- ولا يهمك ما أنت لو كنت قولتلى أنت جاي  أمتى كنت بعتلك الواد ياخدك بالعربية
- مش مهم بقى مرة تانية
- طب تعالى، تتعشى ولا أعملك حاجة تشربها
- أنا عاوز انااام هاتلى أنت بس اى لبس بدل ده والصباح رباح


يقضون ثلاثة أيام في محاولة للبحث عن السعادة فصباحا يجلسون فى احد الشواطئ الخاصة ويحصلون على غدائهم فى احد أشهر المطاعم وعشائهم لا يختلف كثيرا فيكون فى مكان بديع فى كل شئ له واجهة كبرى على البحر تزيد من روعته


مرت ثلاثة أيام هكذا حتى قال هاشم أثناء عشاء ليلتهم الرابعة: عارف يا عزت..انا حياتى بقت متدمره..من البحر للكرسى للنوم مفيش جديد حتى السفر متعته انتهت. احساس انك لوحدك ده مقرف اوى وصعب اوى ربنا ميكتبه عليك..عارف انا متظلمتش ربنا مظلمنيش انا اللى ظلمت نفسى،انا طلبت اعيش كدة فى بيت هادى ويكون معاية فلوس اسافر بيها يمين وشمال واشوف حجات انا مشوفتهاش واعرف حجات معرفهاش وخدت كل ده لكن مخدتش الاهل،بقيت لوحدى واكتشفت ان دى حاجة صعبة جدا،يعنى ايه تبقى معاك فلوس تقدر تعمل بيها كل اللى بتحلم بيه وكل اللى يفرحك ومامعكش حد يشاركك فرحتك شئ مقرف ومتزعلش منى يا عزت انا سعات بحسدك يعنى اكيد عندك عيلة دلوقتى وكفاية يا راجل انك اتجوزت البنت اللى انت حبتها
- طب بس بقى علشان حسدك شكله وصل


قالها وهو يتصنع الضحك وفى قلبه شعور بأنه حقا ظلم نفسه فبرغم ما يراه فى نفسه وعائلته من القبح يتمنى صديقه الملياردير عائلة مثلها. هل جاءت كلمات صديقه هذه لتجعله يعيد تفكيره في أمره هل كانت هذه الكلمات بالنسبة له مهلة أخرى للحياة. ظل شاردا هكذا لدقائق حتى قاطع صديقه هذا الشرود بقوله: ياما كان نفسى تاخد منى اد ١٠٠،٢٠٠ الف وتعيش وتهيص لكن اقولك ايه دماغك جزمة ده أنت حتى يا راجل مرضتش تخلينى اشغلك حد من عيالك قال ايه سيبهم يعتمدوا على نفسهم
خليك لغاية ميجرالك حاجة من الهم وساعتها يمكن تجينى تلاقينى مت وتبقى فلوسى كلها راحت

قالها عزت بعد دقائق من وصولهم المنزل ليسأله صديقه باندهاش: نعم؟!!..يعنى ايه طب جيت ليه من الاساس؟ جيت تقلب عليا المواجع وتفكرنى بالقديم..ماشى؟!! طب جيت ليه؟
- هجيلك تانى..اوعدك
- كل مرة تقولى نفس الكلام وتمشى واقعد استناك اسبوع والتانى وشهر والتانى وسنة والتانية واول ما انساك وانسى كل حاجة ترجع تيجى وتفكرنى بكل حاجة تانى وتعلقنى بيها اكتر..امشى يا عزت امشى وما تجيش تانى امشى ومتورنيش وشك تانى


كلمات قالها بعصبية مبالغ فيها ولكن صديقه جلس صامتا ينظر إليه والى الأرض حتى انتهى من صراخه وذهبوا إلى النوم


في اليوم الثاني وأثناء الرحيل..فتح عزت الباب ليقول له صديقه بأسى: عزت أوعى تاخد على الكلام اللى قولتهولك امبارح..ابقى تعالى


فيعود ويعانقه بشده وتدمع عيناه فيقول له صديقه: انت عارف انى مبحبش اوصل حد لانى مبحبش الوداع بس استنى اوصلك بالعربية


فى محطة القطار يشير هاشم الذي يقف على الرصيف لصديقه قائلا: سلام يا عزت
يشير صديقه بنفس التحية ثم يتحرك القطار عائدا الى القاهرة. ينظر _عزت_ للأرض ثم يقول في أسى وشفقه: سلام يا هاشم


يعود القطار بشخص غير الذي ذهب شخص يحمد الله على الحياة. هي نفس الحياة التي كان يسخطها منذ أيام وكأن تذكرته التي قطعها للسفر لم تكن للقطار بل كانت لمهلة أخرى للحياة
للتواصل مع الكاتب 
محمد شاهين

#أكسجين_حروف

هناك تعليق واحد:

  1. Casino Games Reviewed & Honest Review by Casino Sites
    Casino 먹튀 랭크 Games — We've thoroughly reviewed and found that the casino games 포커 테이블 selection is packed with features that most casinos expect from players. 실시간 배당 In our 📞 Top Casino Games: 1 💰️⃣️ Slots: 60📱 Mobile: Android, iPhone, Tablet🎰 Deposit Bonus: 토토 라이브 스코어 Up to C$1600🎲 Games: 329 Rating: 카드 카운팅 3.9 · ‎Review by Casino Sites

    ردحذف

تابعنا على الفيس بوك

آخر التعليقات

أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *