يجلس على مقعده فى حجرة الدراسه ، غارقا فى السعاده ،يدق قلبه بسرعه غير معتادة، يكاد قلبه من شدةالإضطراب أن يقفز من مكانه ، ينتظر تلك اللحظة التي يدخل فيها المعلم ، ذهب بخياله إلى مكان آخر غير الذى يجلس فيه ، مكاناً ملئ بالآمال و الطموحات ،يتخيل تلك اللحظه التى يمدحه فيها معلمه ويشيد بروعته وذكاءه ، هام فى عالم ملئ بالسعاده والفخر ، لم ينتزعه من هذا الشعور إلا صوت المعلم يلقى عليهم تحيه الإسلام ، رد التلاميذ التحيه ، ثم هم المعلم بتوزيع كراسات "التعبير " الخاصه بهم ، ينادى على كل تلميذ ليأخذ كراسه ، وها قد أتت اللحظة التى ينتظرها الصبى ، نادى عليه المعلم "البرعى عويس" ما أن نطق المعلم بذلك الإسم حتى إمتلأ الفصل بالضحكات والسخريه التى إعتاد عليها ذلك الصبى ، ولكن السعادة الكبيرة التى ينتظرها قد أنسته تلك السخريه . ولكن حدث ما لم يتوقعه ، وانقلبت الأمور رأساً على عقب ، "إيه اللى إنت عامله ده ياطالب !! ، كاتب أربع صفح بس من عشره..... إفتح إيدك" ، كان وقع تلك الكلمات على الصبى وقع الصاعقة ، لم يستطع أن ينطق بكلمه واحده ، حتى أنه لم يشعر بتلك العصى الغليظه اللتى تفتك بيده صعوداً وهبوطا ليكمل بها المعلم العشر صفحات التى طلبها ، وبعد أن نال نصيبه من تلك العصى ، جلس على مقعده وكأنه هوى من فوق ناطحه سحاب ،تدور به الدنيا، يكاد الألم الذى يشعر به أن يقضى عليه ، ولم يكن ذلك الألم ناتجا عن تلك الضربات اللتى تلقاها من معلمه ، ولكنه ناتجا عن خيبة الأمل اللتى قد أحلت به، يطوف بعقله إعصارا من التساؤلات ، هل المعلم لم يقرأ الموضوع !، أم أن الموضوع لم يعجبه !، ولكنه قرر أن يذهب إليه ليسأله عن سبب ما حدث. "حضرتك قرأت الموضوع!"، سأل الطالب معلمه هذا السؤال والدموع تكاد أن تنهمر من عينه ، مستنكرا ومتعجبا مما حدث له ، أجابه المعلم بكل برود "لا طبعا مقرأتوش ، أنا طلبت منكم عشر صفح ، وأنت كتبت أربعه بس ، وبعدين أنا هقرأ لمين ولا لمين ، أهم حاجه تكتبوا كتير فى الإمتحان ." سأله الطالب راجياً إياه أن يقرأه ليبدى رأيه فيه ولكنه أجباه بلا مبالاة ، وتمتم بكلمات غير مفهومة عرف من خلالها الصبى أنه لن يقرأه. عاد إلى البيت محطم النفس ، يحمل من الهموم مايفوق سنه الصغير ، دخل إلى حجرته وأغلق الباب على غير عادته ، فعرفت والدته أن هناك شيئا قد أصابه ، فتوجهت إلى غرفته لترى ماحدث، قص لها ماحدث كما إعتاد أن يشكو إليها همومه ، وأستمعت إليه كعادتها ، فما أجمل من أن تجد مأوى تركن إليه عن ضيقك وما أجمل أن يكون ذلك المأوى الذى يحتضنك هو قلب أمك. إستمعت له بكل إهتمام وقالت له هون على نفسك ، لقد قرأت موضوعك وأعلم أنك موهوب ، فلا تنتظر مجاملة أو ثناء من أحد ، آمن بنفسك ،لا تستمع لمن يحبطك ، أنت مميز ، فثق بقدرتك وموهبتك وإنطلق ، كانت تلك الكلمات كبيره على صغير مثله، ولكن تلك الأم كانت لها طريقه مميزه لإيصالها للصغير . إحتفظ الصغير بتلك الكلمات فى قلبه فشعر بالأمان ، وظلت مرافقه لها حتى كبر . أصبح ناضجا متسع الآفاق ، ملم بكل العلوم والمعارف يعجب به كل من إستمع إليه ، أصبح قادرا على صياغه الأفكار فى كتابات مؤثره، فأخرج تلك الأفكار الناضجه فى كتاباً مخاطباً فيه الشباب ، ليهتدى به كل من ضل ، ولكن يبدو أنه لم يعرف فيما يفكر الشباب ، فلم ينجح كتابه كما كان يتوقع . تمتلأ المكتبات بالآلاف من الكتب والروايات ، منها ما يهجم عليه القراء فلا يبقي منه شئ ، ومنها مايتراكم عليه التراب فلا يأخذ منه إلا القليل فهذا شئ عادى . ولكن من غير المعتاد أن تكون تلك الكتب اللتى يتراكم عليها التراب هى تلك الكتب القيمه المفيده ، فالبعض يبجث عن كتاب أو روايه يقضى بها وقت فراغه ، يخرجه من الملل الذى يحيط به ،مهما كانت تفاهته ، فالبعض لا يبحث عن المعرفه بقدر بحثه عن أشياء يهدر بها وقته ، فيكتفى أن يكون اسمك "البرعى " و هدف كتابك الإفاده لا التفاهه ، ليسكن كتابك تلك الرفوف ويتراكم عليه التراب كأنه سلعه تالفه . ولكنه لم ييأس وظل يكتب ، واضعا هدفه نصب عينيه ، ولكن كالعاده لا تصل كتاباته لأحد ، بدأت الشكوك تتسلل لعقله ، وحدثته نفسه ليتوقف عن الكتابه، ولأول مره بدأ يشعر بالفشل يحيط به ، كأنه سحابه سوداء ينتظر زوالها ، فترت عزيمته وقرر أن يتوقف عن الكتابه لبعض الوقت ، ولكن حدث شيئاً بعث فى نفسه الأمل ، وأنار فى قلبه الظلام الذى يسكنه ، كان يجلس فى ندوه علميه لدعم وتحفيز الشباب ، وإذا من بين الحضور شخص ينظر إليه وقد إرتسمت على وجهه علامات السعاده ، ظل طيله المحاضره ينظر إليه ، حتى إنتهت فوجد هذا الشاب يتجه نحوه فى خطوات سريعه ، "حضرتك الأستاذ البرعى صح " سأله الشاب هذا السؤال فأجابه بنعم ، زادت سعاده الشاب وقال له ، كنت أتمنى أن ألقاك ياسيدى وحمدا لله أن جمعنى الله بك ، أأسف عن تلك الطريقه اللتى سطوت بها عليك ، ولكنى سعادتى بلقائك أجبرتنى على ذلك ، لقد كنت أعيش الضياع وكنت تائها ، لم أكن أدرى بتلك المميزات التى أمتلكها ، حتى قرأت كتابك ، فوجدت فيه هدايتى ، وأنار لى طريقى ، وأزال الصدأ الذى كان يغطى جوهرى ، والآن أنا بفضل الله شخصا ناجحا وألقى محاضرات لدعم الشباب وكنت أحدثهم عنك كقدوه لى فكل هذا الفضل يعود لك بعد الله، كنت أتابع كتاباتك بإستمرار وأتزود منها زادا يعيننى على الإستمرار والنجاح ولكن كتابتك قد توقفت فجأة ، فأرجوك ياسيدى لا تتوقف عن الكتابه ، أنهى الشاب حديثه معه بعد أن دعاه كضيف فى محاضره له. كان لقاء ذلك الشاب باعثا للحياه فى نفسه ، غير أنه كان رسولاً له ليستمر فى طريقه ولا يكترث لشئ ، أيقن بعده أن العطاء لاينقطع ، وأن الكثره لا تعنى كل شئ ، فالأزمه هنا ليست أزمه كتاب بل أزمه قراء، فقد يكون له قراء كثر ولكن لا يعمل أحد منهم بما يقول ، ولكن شخصا واحداً قد قرأ وعمل فأهتدى وهدى غيره، فما أجملها من مكافأة .
عبدالله محروس
أكسجين حروف
مواهب أكسجين حروف
اسلوب رائع و تفصيل دقيق جدا للمعاناة التي يلقاها الطلاب المتفوقين من المعلمين البائسين
ردحذف