" ليلة مخمورة "
تركت الحفل في منتصفه.. لم أشعر بالإرتياح لوجودي في حفل مدعويه هم زملاء
العمل و رئيسه..
أيضا لم تأت زوجتي معي و كان هذا أفضل ما فعلته..
شعرت بالحرية تتخلل مسامي و أنا أقود سيارتي في الطريق الفارغ.. في منتصف ليل
يناير و الهواء يلفح وجههي.. فيشعرني بمزيد من الحرية و الإنتعاش.. أشياء أفتقدها
منذ زمن.. منذ زواجي من سمر..
و عملي في شركة والدها.. فأنا أشعر بأنني مسجون في مملكتها من ذلك الوقت أو
ربما قبل ذلك بكثير.. منذ أن تخليت عنها..!
فاطمة..
لم يكن للحب معنى آخر سواها.. بل لم يكن للحياة معنى آخر سواها..
زدت من السرعة في غير وجهة محددة.. و كان المنزل آخر مكان أريد الذهاب
إليه.. تطلعت على المنازل من حولي.. ساكنة تماما.. كأشباح في ليلة معتمة وقفت
متراصة تراقب المارة في صمت و تبلد.. كانت أحياء الأغنياء هكذا دوما و ستظل
رتيبة كئيبة.. تفتقر إلى الحياة..
اشتقت لبيتي القديم بأثاثه المتهالك و حوائطه المشقوقة بفعل الرطوبة.. اشتقت للمدخل
الضيق و رائحة التبغ المنبعثة من قهوة عم زكي.. اشتقت لصوت الأطفال يلعبون بكرة
صنعوها بأنفسم يلعبون الأولى و السيجا.. صوت النساء يثرثرن على نواصي
المنازل.. و الباعة على عربات الكارو تجرها الحمير..
اشتقت لفاطمة..
اشتد البرد و رعدت السماء و بدأت الأمطار تهطل بشدة..
و تخيلت أنها ستغرق كل هذة المنازل الشاهقة و توقظها من سباتها العميق.
سلكت طريق العودة.. ثم أشعلت سيجارة و بدأت التهامها بتلذذ حين لاح أمامي شبح
لشخص ما أوقفت السيارة فجأة و كدت أن أصدمه في الظلام.. ليقع أرضا نزلت من
السيارة مسرعا و قد تبينت من هيأتها أنها فتاة..
- هل أنتِ بخير.. لقد كان الطريق مظلما و أنتِ ظهرتي أمامي فجأة.
استندت على ذراعي و قامت.. ترتدي ملابس لا تتناسب و برودة الجو .. ترتدي فستانا
قصيرا يكشف عن ساقيها و ذراعيها مفتوح الصدر.. شعرها الأسود ينسدل على
كتفيها.. تلون وجهها بالكثير من الألوان و الأصباغ من مساحيق التجميل..
أعدت سؤالي مرة أخرى
- هل أنتِ بخير؟
أطلقت ضحكة قصيرة مرتجفة ثم قامت تتعثر في كعب حذائها ..
و مدت يدها تجاهي ناشدة بعض الاتزان فلم أملك إلا أن أحوطها بذراعي فقد كان
جسدها ينتفض من البرد.. اسندت رأسها على كتفي و لم يكن ينقصني شيء حتى
استنتج من هيئتها و ملابسها أنها من هؤلاء الفتيات..
بعد عدة دقائق كانت تجلس جواري داخل السيارة.. لا أدري لماذا دعوتها للركوب
معي.. هل أشفقت عليها من هذا البرد؟ هل أثارني مظهرها ؟ أو أنها رغبة في
المغامرة و التمرد انتابتني..
لم أجد شيئا أفتح به حديثي معها.. بدأت هي الحديث
- كانت الليلة ستصير حافلة لولا هذة الأمطار.
لم استطع أن أجب.. نظرت إليها ثم وجهت نظري للطريق.. فأطلقت ضحكة عالية
مجلجلة.. ثم مدت يدها تتحسس شعري..
شيء ما يجذبني إليها لا أدري كنهه.. رغبة عجيبة تحثني ألا أتركها ترحل دون أن
أعرف عنها شيئا أي شيء.. خطر ببالي أن أعرف اسمها على الأقل..
قلت لها و يدها ما زالت تتخلل شعري
- ما اسمك؟؟
- و هل سيغير اسمي من الأمر شيئاً؟
تنحنحت في احراج في حين أنها قالت
- أي اسم تريد؟
نظرت إليها في عدم فهم.. فقالت
- فاطمة.
زاد التعجب في نظرتي و قد قادني الاسم إلى ذكريات قديمة.. قديمة جدا..
سافرت عدة
سنوات للوراء و لم انتبه إلا عندما سمعت ضحكتها تجلجل مرة أخرى
.
- هل تريد بطاقتي للتأكد؟
كان يجب أن أخبرك اسم العمل " فيفي " لكن لا أدري لماذا لم يطعني لساني؟!
قالتها و
أطلقت تنهيدة قصيرة.
ساد الصمت بيننا و كأن اسمها و تنهيدتها أختصرا كل الحديث..!
أخبرتني بأنها تسكن في غرفة صغيرة فوق سطح أحد المنازل
و دعتني لقضاء الليلة معها..
صعدت أولا و طلبت أن أنتظر عدة دقائق و أصعد خلفها ..
فهمت أن هذة طريقتها في التعامل مع الزبائن حتى لا تثير تساؤلات السكان..
و سخط البواب.
شعرت بشيء ينخر في صدري عندما تخيلت أن لها زبائن آخرين
و بأنني لست سوى أحد زبائنها..
غرفة صغيرة تحوي سريرا و دولابا و منضدة.
.
دعتني للجلوس و لم يكن هناك مكانا يصلح للجلوس سوى السرير..
ثم استأذنت في الدخول للحمام حتى تبدل ملابسها المبتلة و تزيل مساحيق التجميل
التي سالت على وجهها بفعل المطر..
خرجت ترتدي قميصا قصيرا ثم توجهت للدولاب و أخرجت زجاجة الخمر..
مرت من أمام عيني ذكرى عن أول و أخر مرة ذقت فيها طعم الخمر.. و ليتني ما
فعلت..!
كانت زجاجة الخمر تلك هي سبب تدمير حياتي و ضياعي للأبد..
جلست جواري و هي تمسك الزجاجة و كأسين.. نظرت لوجهها بدون اضافات ..
يا لهذا الحسن..!
تبدو صغيرة لا تتعدى الثامنة عشر أول أقل..وجهها طفولي بريء .
فتحت الزجاجة و صبت في كأسها ثم كأسي..
- ألستِ صغيرة على الشراب؟؟
أنزلت الكأس قبل أن يلامس فهما.. نظرت تجاهي فترة..
ثم رفعت الكأس و تجرعته دفعة واحدة و أخذت تصب أخر و هي تقول..
- على الشراب فقط؟!
لا أدري لمّ شعرت بالذنب..! لا أدري لماذا أشعر بأنه من واجبي حمايتها..
لا أريد
للحياة أن تعبث بها كما عبثت بي الخمر من قبل.
- لماذا أخبرتيني اسمك الحقيقي..؟ على حد علمي أنكن لا تخبرن الزبائن باسمائكن
الحقيقية..
- ببساطة.. لأنك لست زبونا..!
كانت إجابتها صادمة.. شافية لذلك الشيء الذي يؤلم في صدري.. أفرحتني بقدر ما
صدمتني.. و جعلتني أتساءل ما الذي أفعله هنا؟!
- هل تخبريني حكايتك؟
- أي حكاية؟! قالت بلسان ثقيل و هي تشرب كأسها الرابع
- حتما هناك حكاية.. لكل منا حكايته.
- و هل هذا وقت الحكايات يا اسمك إيه.. ؟!
- إن لم أكن زبونا فلتخبريني بحكايتك على الأقل
.
تمددت على السرير و وضعت رأسها على فخذي.. و كأنها طفلة أخذت أمشط شعرها
برفق.. طال الصمت حتى ظننت أننا سنبقى هكذا للصباح..!
إلى أن سمعت صوت بكائها..بكت كثيرا حتى ظننت أنها لن تنتهي..!
و لعنت حظي و تفكيري الذي قادني إلى هنا.. مع امرأة صغيرة.. أو طفلة كبيرة..
في غرفة فوق سطح تبكي في حجري..!
فكرت في الإنصراف.. لكن ذلك الوخز في صدري عاد من جديد ليمنعني.
بدأت الحديث..
- لقدت ولدتُ دون أب.. نتاج غلطة في لحظة تهور و إن كانت أمي ترفض أن تسميها
هكذا فقد قالت لي أنها أفضل ما عاشته يوما و إن كان خطأ.. أخبرتني أنه كان يحبها..
و أن الظروف هي ما وقفت في طريقه.. لكن أي ظروف هذة التي تجعله يتخلى عنها و
في أحشائها جنين ينبت من بذرته إن كان حقا يحبها..؟!
- قل لي أكل الرجال هكذا؟ سأجيبك أنا.. أجل.. كلهم كذلك.. لم يكن الفقر و لا الذل
الذي لاقيناه أنا و أمي يعطينا أي خيارات في الحياة.. فبعد أن رحلت أمي تاركة إياي
في مواجهتهما وحدي لم أجد ما أفعله سوى أن أكمل حياتي كما بدأتها بغلطة.
- و توالت الغلطات..
كان البيع سهلها و الثمن زهيدا.. ألم تبع أمي نفسها بكأسٍ.. ها أنا ذا أقتدي بها..
كانت تحكي و لا تدري بأن الدموع تغشي عيني.. و أنا أتذكر غلطتي..!
و ذنبي الكبير.. كيف تخليت عن فاطمة و رحلت بعد تلك الليلة.. لم أحاول حتى
الاتصال بها و معرفة ما حدث لها.. لم أفكر كيف واجهت أهلها كيف أكملت حياتها بعد
تلك الليلة المخمورة..!
بدأ لسانها يثقل و كلامها بات يشبه الهذيان..
- أخبرتني أمي ذات مرة اسمه.. ربما تعرفه..
قالت تلك الجملة ثم ذهبت في سبات عميق..
حمل رأسها برفق و وضعه على الوسادة ثم انصرف .. و لم يتطلع خلفه..
و لو أنه ألقى نظرة أخيرة لوجد اسمه مكتوبا على أحد جدران الغرفة..!
آية رأفت
أكسجين حروف
السبت، 30 يناير 2016
آية رأفت | ليلة مخمورة | قصة قصيرة
عن Unknown
تخصيص وصف الكاتب من هنا يمكنك الدخول إلى لوحة التحكم ثم القالب انقر على محرر ثم أبحث عن هذا النص وإستبدله بوصف الناشر لموقعك html
مواهب شابة
التسميات:
مواهب شابة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق